قصة إلياس عليه السلام
قال الله تعالى بعد قصة موسى وهارون من سورة
الصافات :" وإن إلياس لمن المرسلين * إذ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلا
وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين * فكذبوه فإنهم
لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إل
ياسين * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين ".
قال علماء
النسب هو : إلياس النشبي ، ويقال : ابن ياسين ابن فنحاص بن العيزار بن
هارون . وقيل : إلياس بن العازر بن العيزار ابن هارون بن عمران .
قالوا
وكان إرساله إلى أهل بعلبك غربي دمشق ، فدعاهم إلى الله عز وجل وأن يتركوا
عبادة صنم لهم كانوا يسمونه بعلا وقيل كانت امرأة اسمها بعل والله أعلم .
والأول أصح ولهذا قال لهم :" ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين ".
فكذبوا
وخالفوه وأرادوا قتله . فيقال : إنه هرب منهم واختفي عنهم ، قال أبو يعقوب
الأذرعي ، عن يزيد بن عبد الصمد ، عن هشام بن عمار قال : وسمعت من يذكر عن
كعب الأحبار أنه قال : إن إلياس اختفى من ملك قومه في الغار الذي تحت الدم
عمثر سنين ، حتى أهلك الله الملك وولى غيره ، فأتاه إلياس فعرض عليه
الإسلام ، وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم ، فأمر بهم فقتلوا عن
آخرهم .
وقال ابن أبي الدنيا : حدثني أبو محمد القاسم بن هشام ، حدثنا
عمر بن سعيد الدمشقي ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن بعض مشيخة دمشق قال :
أقام إلياس عليه السلام هارباً من قومه في كهف جبل عشرين ليلة - أو قال
أربعين ليلة - تأتيه الغربان برزقه .
وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي :
أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبيه قال : أول نبي بعث إدريس ،
ثم نوح ثم إبراهيم ، ثم إسماعيل وإسحاق ، ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود
ثم صالح ثم شعيب ، ثم موسى وهارون ابنا عمران ، ثم إلياس النشبي بن العازر
بن هارون ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم
السلام .
هكذا قال : وفي هذا الترتيب نظر .
وقال مكحول عن كعب : أربعة أنبياء أحياء : اثنان في الأرض إلياس والخضر ، واثنان في السماء : إدريس وعيسى عليهم السلام .
وقد
قدمنا قوك من ذكر أن إلياس والخضر يجتمعان في كل عام في شهر رمضان ببيت
المقدس ، وأنهما يحجان كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من
العام المقبل . وأوردنا الحديث الذي فيه أنهما يجتمعان بعرفات كل سنة .
وبينا أنه لم يصح شيء من ذلك ، وأن الذي يقوم عليه الدليل : أن الخضر مات ، وكذلك إلياس عليهما السلام .
وما
ذكره وهب بن منبه وغيره : أنه لما دعا ربه عز وجل أن يقبضه إليه لما كذبوه
وآذوه ، فجاءته دابة لونها لون النار فركبها ، وجعل الله له ريشاً وألبسه
النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار ملكياً بشرياً سماوياً أرضياً ،
وأوصى إلى اليسع بن أخطوب ، ففي هذا نظر . وهو من الإسرائيليات التي لا
تصدق ولا تكذب ، بل الظاهر أن صحتها بعيدة . . والله أعلم .
فأما الحديث
الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثني
أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني البخاري ، حدثنا عبد الله بن محمود :
حدثنا عبدان بن سنان ، حدثني أحمد بن عبد الله البرقي ، حدثنا يزيد بن يزيد
البلوي ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن أنس بن
مالك قال : كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر ، فنزلنا منزلاً
فإذا رجل في الوادي يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم)
المرحومة المغفورة المتاب لها قال : فأشرفت على الوادي فإذا رجل طوله أكثر
من ثلاثمائة ذراع ، فقال لي : من أنت ؟ فقلت : أنس بن مالك خادم رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) ، قال : فأين هو ؟ قلت : هو ذا يسمع كلامك ، قال :
فأته فأقرئه مني السلام ، وقل له : أخوك إلياس يقرئك السلام . قال : فأتيت
النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبرته ، فجاء حتى لقيه فعانقه وسلم ، ثم قعدا
يتحادثان فقال له : يا رسول الله . . إني ما آكل في السنة إلا يوماً ،
وهذا يوم فطري فآكل أنا وأنت . قال : فنزلت عليهما مائدة من السماء ، عليها
خبز وحوت وكرفس ، فأكلا وأطعماني وصلينا العصر ، ثم وعده ورأيه مرة في
السحاب نحو السماء .
فقد كفانا البيهقي أمره ، وقال : هذا حديث ضعيف بمرة .
والعجب
أن الحاكم أبا عبد الله النيسابوري أخرجه في مستدركه على الصحيحين ، وهذا
مما يستدرك به على المستدرك : فإنه حديث موضوع مخالف للأحاديث الصحاح من
وجوه ومعناه لا يصح أيضاً فقد تقدم في الصحيحن أن رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) قال :" إن الله خلق آدم طوله ستون ذراعاً في السماء - إلى أن قال - :
ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن ".
وفيه أنه لم يأت رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) حتى كان هو الذي ذهب إليه ، وهذا لا يصح ، لأنه كان أحق بالسعي
إلى بين يدي خاتم الأنبياء . وفيه أنه يأكل في السنة مرة ، وقد تقدم عن
وهب أنه سلبه الله لذة المطعم والمشرب ، وفيما تقدم عن بعضهم : أنه يشرب من
زمزم كل سنة شربة تكفيه إلى مثلها من الحول الآخر .
وهذه أشياء متعارضة وكلها باطلة لا يصح شيء منها .
وقد
ساق ابن عساكر هذا الحديث من طريق أخرى واعترف بضعفها وهذا عجب منه ، كيف
تكلم عليه ؟ فإنه أورده من طريق حسين بن عرفة ، عن هانئ بن الحسن ، عن بقية
، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن واثلة ، عن ابن الأسقع ، فذكر نحو هذا
مطولاً . وفيه أن ذلك كان في غزوة تبوك ، وأنه بعث إليه رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان ، قالا : فإذا هو أعلى جسماً
منا بذراعين أو ثلاثة ، واعتذر بعدم قدرته لئلا تنفر الإبل ، وفيه أنه لما
اجتمع به رسول الهل (صلى الله عليه وسلم) أكلا من طعام الجنة ، وقال : إن
لي في كل أربعين يوماً أكلة ، وفي المائدة خبز من عنب وموز ورطب وبقل ، ما
عدا الكراث . وفيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سأله عن الخضر فقال :
عهدي به عام أول ، وقال لي : إنك ستلقاه قلي فأقرئه مني السلام .
وهذا
يدل على أن الخضر وإلياس ، بتقدير وجودهما وصحة هذا الحديث لم يجتمعا به
إلى سنة تسع من الهجرة ، وهذا لا يسوغ شرعاً . وهذا موضوع أيضاً .
وقد
أورد ابن عساكر طرقاً فيمن اجتمع بإلياس من العباد ، وكلها لا يفرح بها ،
لضعف إسنادها أو لجهالة المسند إليه فيها ، ومن أحسنها ما قاله أبو بكر بن
أبي الدنيا : حدثني بشر ابن معاذ : حدثنا حماد بن واقد ، عن ثابت قال : كنا
مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة ، فدخلت حائطاً أصلي فيه ركعتين فافتتحت
:" حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد
العقاب ذي الطول " فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء ، عليه مقطعات يمنية
فقال لي : إذا قلت :" غافر الذنب " فقل : يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي ،
وإذا قلت :" قابل التوب " فقل : يا قابل التوب تقبل توبتي ، وإذا قلت : "
شديد العقاب " فقل : يا شديد العقاب لا تعاقبني ، وإذا قلت :" ذي الطول "
فقل : يا ذا الطول تطول على برحمة ، فالتفت فإذا لا أحد . وخرجت فسألت : مر
بكم رجل على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية ؟ فقالوا : ما مر بنا أحد .
فكانوا لا يرون إلا أنه إلياس .
وقوله تعالى :" فكذبوه فإنهم لمحضرون "
أي للعذاب ، أما في الدنيا والآخرة ، أو في الآخرة . والأول أظهر على ما
ذكره المفسرون والمؤرخون وقوله :" إلا عباد الله المخلصين " أي إلى من آمن
منهم . وقوله :" وتركنا عليه في الآخرين " أي أبقينا بعده ذكراً حسناً له
في العالمين فلا يذكر إلا بخير ، ولهذا قال :" سلام على إل ياسين " أي سلام
على إلياس والعرب تحلق النون في أسماء كثيرة وتبدلها من غيرها كما قالوا :
إسماعيل وإسماعين ، وإسرائيل وإسرائين ، وإلياس وإلياسين ، وقد قرئ : سلام
على آل ياسين ، أي على آل محمد ، وقرأ ابن مسعود وغيره : سلام على إدراسين
، ونقل عنه من طريق إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال : إلياس
هو إدريس . وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم ، وحكاه قتادة ومحمد بن إسحاق .
والصحيح أنه غيره كما تقدم . . والله أعلم
................................